9.11.21
غزّة التي تحاسب دائما على المشاريب: اشتراط المراكمة وتوزيع الأعباء
نسمع، منذ دخلت غزّة المواجهة كإقليم متمرّد على المنظومة والتسوية، (وخصوصا خلال الأسبوع الأخير) أصواتا متصاعدة، بعضها غزّي، على أرض القطاع وخارجه، توظّف مظلومية غزّة في مساءلة باقي فلسطين عن الحال الذي آل إليه القطاع تحت حكم حماس.
بعض هؤلاء لا يتوقف عن توجيه أصابع الاتهام، إن قَصَف الغزّي، أو قُصِف، إلى باقي فلسطين، وكأنّ قرار الكابينت الإسرائيلي الصادر في حزيران 2007، والقاضي بمحاصرة القطاع لدفع الناس إلى إسقاط حكومتهم المنتخبة، موقّع باسم متظاهري الضفّة، أو حراك حيفا مثلا، لا باسم الكابينت.
علينا دائما أن نفكّر في فرضيّة هؤلاء: فلو كان سلاح غزّة مكرّسا فقط لحماية حدود غزّة، كما يطالب هؤلاء، لانتفت الحاجة إلى السلاح، فما حاجة "إسرائيل" إلى الاشتباك مع غزة، وما حاجة جنرالات تل أبيب بالدخول إلى أرض يحتشد فوقها مليوني إنسان.
الواقع يقول إن سلاح غزّة، لو كان على هذه الحال (حال النأي بالنفس)، لكان موظّفا، بالقصد، في تكريس الحصار، وخلق جيب منعزل عن سائر فلسطين، وهذا ما ترغب "إسرائيل" جدّا بفعله.
ما يقلق الاحتلال في سلاح غزّة أنّه منذور لحماية الأرض التي نطلق عليها اسم "فلسطين" التاريخية، بمعنى أن آماد الصواريخ، وإرادة المقاتلين، وخطاب قيادتهم، وفوّهات الأنفاق، تتجه كلّها نحو مواجهة في العمق المحتل. أنّ هذا السلاح، رغم كل محاولات تقسيم الشعب الفلسطيني إلى فئات متناحرة على لقمة الخبز وامتيازات العيش تحت الاحتلال، وتكريس التناحر الظاهر في لغة المشتكين من جوع الناس وموتهم، قادر على ترسيم أفق آخر للناس اسمه: وحدة المصير الفلسطيني.
هذا السلاح، الموجّه إلى عمق الأرض المحتلة، من عمق الأرض المحررة، هو ما يوحّد الناس على النظر إلى أفق يتجاوز حواجز الاحتلال وجداره الأخضر.
من الضروري دائما أن نذكّر أنفسنا بأنّ عبء المواجهة في فلسطين قد تمّت هندسته بطريقة تضمن خلق تفاوتات مقصودة بين الفلسطيني وأخيه. تماما كما يتم تقسيم "امتيازات" العيش تحت الاحتلال. هذا كلّه تمّ التخطيط له بواسطة الاحتلال، من أجل إدامة الاحتلال.
من نافلة القول إن "إسرائيل" لم تُجرِ استفتاء بين أبناء الشعب الفلسطيني حول استعدادهم لتحمّل أعباء مقاومتها، وبالمقدار ذاته: لم يختر أبناء الشعب الفلسطيني تقاسم هذه التراتبيّة. الأمر كلّه نتاج الصدفة والجغرافيا والأحداث التاريخية. لقد تمّت مراكمة حشود اللاجئين في القطاع الضيّق والمهمّش على خاصرة فلسطين الجنوبية على البحر. أكبر تجمّع للاجئين والبشر في أضيق بقعة محاصرة في العالم. ومثل هذا القمع يولّد، كما لو كان الأمر قانونا فيزيائيا، مقاومته الأكثر احتداما، بصورة أشد مما يحدث مثلا في الجليل المقطّع جغرافيا إلى قرى معزولة عن بعضها بالبنى الاستيطانية من شوارع ومستوطنات وشبكات مواصلات، ومخترق من قبل المنظومة الصهيونية.
من نافلة القول أيضا أن واحدا من أهداف التفاوت في الأعباء الذي خلقه الكيان، يتمثل في مراكمة المظلومية والتراتبية الجهوية والتقسيم (غزة -ضفة - قدس -48، وداخل كل من هذه الفئات تقسيمات أخرى مرتبطة بالمركز والهامش، والمناطق العاصية والأخرى المسالمة، وهي سياسة قديمة جديدة كانت آخر تجلّياتها المهينة في فترة استلام أفيغدور ليبرمان لوزارة حرب الاحتلال، والذي أطلق بكل وقاحة على سياسته اسم "العصا والجزرة"). لم يكن الهدف تحويل الناس إلى كائنات تبحث عن قوت يومها بقدر ما كان يهدف إلى تحطيم فكرة "الشعب" والتلاحم الشعبي. ولعل "إسرائيل" قد نجحت في إدامة هذا الحال على مدار أيّام الاحتلال، مع فترات متقطّعة من الشفاء منه، في أزمنة هبّات الشعب الفلسطيني التي شكّلت حالة تلاحم وتعاضد شعبي وإعادة اكتشاف للذات الوطنية الموحدة.
علينا أن نسأل: ما الذي سبق حصار 2007 على غزة؟ حصار، وحصار، ثمّ حصار، يمتد إلى سنة 1956 (قبل احتلال 67، وقبل "الانقلاب الأسود" بكثير).
على مدار سنوات الاحتلال الإسرائيلي لغزة، كرّس الاحتلال حالة التبعية هذه، لاستعباد أفواج البشر القاطنين في غزة تحت سقف البؤس. رفض تماما تطوير البنى التحتية والاقتصاد، وضع العوائق أمام محاولات التنمية الضئيلة والهشّة. وهكذا حافظ الاحتلال على غزّة بوصفها مصنعا للبؤس، ومكانا مهددا دائما بالجوع، ومحتاجا دائما للعلاج في الخارج، إذا ما قررت دوائر صنع القرار في تل أبيب حصار الناس هناك. لتوضع الكتلة الأكبر، ديموغرافيا من الشعب الفلسطيني المتبقي على أرض فلسطين التاريخية، في أضيق أقاليمه الجغرافية، رهينة أمام خيارين: إما الموت جوعا، وإمّا إسقاط واحدة من آخر قلاع مقاومة إسرائيل في هذا العالم الذي تنبثق فيه "نيوم" و "اتفاق إبراهيم" وتهرول فيه الأنظمة، الواحد تلو الآخر، إلى تقبيل ظاهر اليد الإسرائيلية وتقديم الطاعة لها.
ما يسوء الاحتلال حقّا هو نموذج غزّة: البلد التي لن يتمكن المستعربون من دخولها كما يفعلون في مدن الضفّة مثلا. وهذا يفسّر لماذا يطرق الاحتلال جدران وأسقف وأبنية إقليم ما بالصواريخ، في حال لم يتمكن مستعربوه من طرق أبواب المنازل، فالمطلوب دائما: خلق كائنات تستحوذ عليها فكرة "إسرائيل" القادرة على كل شيء، وفي كل مكان. وهذه الفكرة قد تخلخلت تماما في النموذج الغزّي تحت النار.
من السذاجة أن نفترض بأن السبب الوحيد لحصار غزّة هو أنّها تقاوم. غزّة تُحاصر لأنها نموذج عاصي للإرادة الدولية. كما تحاصر غزّة لأنها، بفعل الاحتلال، تشكّل قنبلة ديموغرافية لن تتمكن إسرائيل من تذويبها، وعبئا لن يستطيع الاحتلال بلعه. ومن يذكر أيام ما قبل تحرير غزة من سلطة دايتون، وأيام الانتفاضة الأولى وما قبلها، يتذكّر كيف كان إيرز يحتشد كلّ فجر بالغزيين الذاهبين إلى أسواق العبيد، وكيف كان العائدون خائبو الأمل إلى غزّة، ظهيرة كل يوم، أولئك الذين أكلت ورشات البناء من أكتافهم وأعمارهم وتركتهم هياكل عاطلة عن العمل، يعودون ليحاولوا فهم هذا العالم الظالم. وينتجون الانتفاضات تلو الانتفاضات لتغرق فلسطين كلها في الحمل الانتفاضي.
لقد كرّس حسم 2007 حالة تاريخية فريدة في تاريخ فلسطين، إذ تحرر للمرّة الأولى، ودفعة واحدة، 365 كيلومترا مربّعا ومليوني إنسان من أرضها بقوّة المقاومة. هذا النموذج من الحياة مرفوض ليس فقط من قبل كيان الاحتلال، بل ومن قبل الأنظمة العربية والمنظومة العالمية. فالثورة والأمل، بحسب غسان كنفاني، كالحصبة، يعديان.
هكذا، يجد الاحتلال نفسه بدلا من الاكتفاء بحصار غزة، مجبرا على شن العدوان عليها، لوضع غزّة أمام واحد من ثلاث خيارات:
أ. القبول بالاحتلال من خلال القبول بـ "المصالحة" وما تستتبعه هذه المصالحة من استلام قوات دايتون لأمن القطاع (وهي تجربة نرى مفاعيلها ماثلة أمامنا في الضفة).
ب. تكريس الحالة التي ينادي بها بعض الإخوة الغزيين الذين خنقهم الحصار، وتتمثل في عدم تدخّل غزّة فيما يحدث في فلسطين (الشيخ جرّاح وسيف القدس مثالا) بعد الإشارة إلى التناقض الكبير وغير المفهوم في وجود مقاومة تسعى لحماية فلسطين، في الوقت الذي ترشح فيه أخبار عن إدارة مترهلة ومحسوبيات تضرب مفهوم الالتفاف حول النموذج المقام. وتطالب بتقاسم أعباء الحصار في القطاع، وهذا مطلب مفهوم ومحق ومن الجرم بحق المقاومة أصلا تجريمه.
ج. المضيّ على الحال القائم: مقاومة تخلّد مراكمة الأعباء على كاهل الغزّيين، وإدارة ترث أمراض الإدارات في الإقليم من فساد ومحسوبية وانعدام تخطيط وترسيخ لمفاهيم ما قبل حداثية في إدارة المجتمع (أو قل، عدم التفريق بين إدارة المعسكر/ التنظيم وإدارة المجتمع المدني)، والأهم: محيط يكتفي من المواجهة بدفع غزّة لضريبة المواجهة وحدها.
لا يمكن لحريص على غزة وأهلها أن يجرّم رغبة الناس في العيش في الحدّ الأدنى من الكرامة، حتى في ظل الحصار، وينبغي علينا جميعا، كمحبين ليس لغزة فحسب، بل ولمقاومتها أن نسعى إلى الضغط باتجاه المحاسبة ضد كل تقصير في توزيع أعباء الحصار على أهل غزة جميعا.
هذا كلّه لا يكفي بالطبع: إذ أن الوضع "المريح" خارج غزة ينبغي أن يقلقنا جميعا. فما معنى أن تدفع غزّة، حقّا، حساب المشاريب في كل مواجهة، من دون أن نحوّل فترات التقاط غزة لأنفاسها بين المواجهات، إلى ضغط دائم باتجاه رفع الحصار عن غزة؟
الغاضبون في غزّة لديهم كلّ الحق في أن يغضبوا منّا، لأننا مقصّرين تجاه ردّ الدين الغالي، الممهور بدم الأطفال المقصوفين والمقطّعين، والعائلات التي تعيش في كل مواجهة، تحت شبح الإف ستّة عشر. واحد من أسمى مهمّاتنا التي نتخلى عنها نحن، خارج غزة، يتمثل في الضغط الدائم، بل والانتفاض الدائم، من أجل رفع الحصار عن غزة، والتأثير على الحلقة الأضعف في الحصار، وهي سلطة رام الله من أجل رفع حصارها عن غزة. فالوفاء للدمّ النازف هناك، ينبغي أن يتمثل بدمّ نازف هنا، في مواجهة من يحاصرون القطاع، ويرغبون، قبل الاحتلال، بأن يسقط نموذج التحرر المشرّف الوحيد في تاريخ فلسطين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق