8.8.22

هي قطرة، ثم ينهمر المطر


1.
نهاية الثمانينيات، في محطة الباصات المركزية في باب العامود، علّق ثلاثة من الشباب بضعة أوراق على الأعمدة المتسخة للمحطة. كانت شعارات مذيلة بعبارة "إيمان.. وعي. ثورة".

2.
النقلة النوعية هي الطريق: كيف تغلغل الإيمان والوعي والثورة، مذابا كله بالدم، في نسغ الهواء والتراب، كيف تحولت شظايا هؤلاء إلى مقاتلين يتوعدون إسرائيل بالويل والثبور، فنؤمّن على أقوالهم، مأخوذين بفصاحة الشظايا وهي تتلو البيان كلّه فصيحا على الأسماع.

3.
لا. ليس النصر موعدهم، بل الاشتباك. كان الشقاقي يحرث الأرض ويطلب إلى مريديه: وجهوا بنادقكم الفقيرة نحو الأهداف الصعبة، فرصاصنا قليل، وجل ما يمكن أن نحققه في زمن الاستضعاف، وفي مدى أعمارنا القصيرة، هو أن نحطم هيبة العسكر، ونعيد ثقة الناس بذاتها. لذلك، حققت معركة الشجاعية (٦ تشرين ٨٧) نصرها لأنها حرثت الأرض لبذرة الانتفاضة المجيدة، وهو ما حققه ضياء ومهند في ٢٠١٥.
ليس اشتباك الطلائع هو ما سيحقق النصر. انخراط الناس في المعركة هو الذي من شأنه أن يحقق النصر.

4.
ثم نأتي إلى معنى النصر، في زمن يتكالب العالم كلّه فيه: مشايخ دبي والحجاز واستنبول، عسكر مصر و"إسرائيل" وأمريكا على ٢ مليون شيخ وطفل وامرأة ورجل يأكل الحصار من أجسادهم.
قد يقول قائل: أي نصر حققه المستضعفون في اليمن ومشايخ الخليج جاثمون عليه؟ وأي نصر حققته غزة والطوق مضروب ويشتد؟.
كلا. حين يستباح الدم، يكون أمامك خياران: أن تقف مهما كانت العواقب، أو أن (أجلّكم الله) "ترامالله" على بطنك وتقول "حلوا عن صدورنا".

5.
كل هذا الصراخ مبرر، وكلّه دالّة.
لم يعد وعينا يقبل بأن يعتقل قائد بدون أن يحسب الاحتلال العواقب. ولم يعد، زمن الاطمئنان- الخديعة، ممكنا لمن يعِدّ العدة.
ليس ما حصل تذكير لنا بأن النصر ممكن، بل هو تذكير لنا بأن الوقوف ممكن.
أما النصر، فله اشتراطاته، ولا زلنا نجوس الحلكة ونجسّ التراب، بحثا عنها. لكننا ونحن نتذكر المسيرة التي ابتدأت بطالب في جامعة الزقازيق، اكتشف ذات يوم أن فلسطين ممكنة التحقق، بمكونات بسيطة (ثلاثة شبان، مثلا، يكتبون المعادلة على ورق كرتون ويعلقونها على أعمدة المحطة المركزية، في زمن الشح).

6.
في يوم ماطر، هو 26 تشرين 1995، وقرب فندق "ديبلومات" في بلدة "Tas-Sliema" التابعة لجزيرة مالطة، توقّفت دراجة نارية يركبها شخصان يتبعان لوحدة "كيدون"، وحدة الاغتيالات التابعة للموساد قرب رجل يحمل جواز سفر ليبي مدوّن فيه اسم"إبراهيم الشاويش". ترجّل الراكب الخلفي عن الدراجة وأطلق نحو جبهة الرجل رصاصتين، ثم عاجله برصاصة ثالثة في مؤخرة الرأس.
وسط دهشة الشارع، انسحبت خلية الاغتيال نحو المرسى، ثم اختفت في عرض البحر، حيث انتظرتها فرقاطة "ساعر 5" تابعة للوحدة البحرية رقم 13، وحدة الكوماندو البحري الإسرائيلي.
سقط "إبراهيم الشاويش" مضرجا الرصيف بدمائه، لا أحد يسند الجسد، لا حضن يلمّ شظايا الرأس المهشّم.
سقط تحت المطر، في شارع غريب، في مكان قصيّ، وهو يطارد حلما راوده في صباه لبلد مخطوف بالصدفة التاريخية والعمالة وحدهما.

7.
لعل واحدا من آخر النصوص التي كتبها، كان منذورا لعطاف عليّان، إبنة بيت لحم التي كانت تقضي محكوميتها في تلك الأثناء في "تلموند" ، هذا بعض مما علق في الذاكرة منه:
"حجر لمصباح الصوري، ولسامي الشيخ خليل حجر
حجرٌ لشيخ المبعدين
يمسي ويصبح في الحنين
لشوارع الوطن المحاصر في دمه
وللرصاصة.
حجر لعينيها عطاف"
امتدّ الخبر نحو القدس، فخرجت خليّة من فتية استعصوا على التنظيمات وكتبوا على باب الأسباط اللصيق بالأقصى، المكسو بالحديد :
"الله واحد
محمد قائد
شقاقي مجاهد"
امتدّ الخبر نحو أزقّة المخيّمات في فلسطين والشتات. لقد سقط عزّ الدين الفارس. الدكتور المؤسس لأصلب فصائل العمل الوطني الفلسطيني وأكثرها مبدئية.

8.
في مثل هذا اليوم: نشع الدم بصمت على الرصيف المبلول، على أرض غريبة، خفق القلب آخر خفقاته على الطريق الطويل المؤدي إلى زرنوقة. وخرجت زغرودة من نافذة منزله في اليرموك واشتعلت الأرض المحتلّة. وكما صُلب جسدٌ محاطٌ بالنكران على تلّة قرب القدس، وكما تمّت تسجية "تشي غيفارا" في لاس هيجراس، سُجّي الجسد الشهيد في مشرحة الشرطة المالطية. جواز السفر الليبيّ لرجل وصل إلى مالطة عبر عبّارة قبل يومين مزوّر. كان ذلك الكرّاس التزوير الوحيد في مسيرة حياة الرجل الذي عاش صادقا وعمل صادقا ومات صادقا.
سقط على الطريق وهو يشير بشاهده إلى الطريق.
أرواح مجنّدة، متفولذة، مؤمنة، منذورة لهذا الطريق.

9.
ثم ماذا؟
ثم لم ننتصر حتى الآن.
فلتحتفل إسرائيل، والإمارات، وجمال نزال.
ثم ماذا؟
ثم فلنغضب لأننا لم ننتصر، حتى الآن. نحن الآن "نؤمن" بأن النصر ممكن.
هكذا يحقق طالب في جامعة الزقازيق أولى اشتراطات مثلثه. "إيمان.. وعي.. ثورة"
هذا إيمان ضريبته عظامنا وركام فوق جثث أحبتنا، والله لا نتركه ما حيينا، ومهما حاكوا وتآمروا وتقوّلوا وسخروا.
ثم ماذا؟
ثم المجد لغزة النبية، والمجد للشقاقي اللذان علما جيلا ولد على أرض الهزيمة ألا يرضى بغير النصر المبين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق