6.1.21

عن حسن سلامة: المجانين والجدوى


(حين أطاح الطريد بعمر التسوية، وشلق باب شرجها معا)



1.

حين فجّروا جمجمته بالخديعة والعمالة والنذالة وشحنة سي فور، سمعنا بالخبر للمرة الأولى على التلفاز الإسرائيلي. كان المذيع مبتهجا بصورة غير عادية. صور من أماكن عديدة، صورة جوّية لغزة. مكالمة من إهود يعاري. مراسل ذهب على عجل إلى أحد شوارع القدس الغربية وقال كلاما لا علاقة له بأي شيء من أمام نصب تذكاري لضحايا باص.

انفجرت الجمجمة. وبدا وكأن سقف السماء كلّه قد انهار فوق رؤوس كل من كان يعارض أوسلو، ويعلّق خيط الأمل الأخير على مجموعة من المجانين قرروا أن يذهبوا إلى الجنة بباص إيغد.

في رام الله، خرجت مجموعة أخرى من المجانين وكتبت "استشهد عيّ.اش بعد أن قرع أبواب الجنّة بجماجمهم" في كل مكان. من دون أن تأبه باقتراب الشعار من حدّ البلاغة التي تراوح سؤال الشرعية الدينية. ومن دون أن تكترث بكلاب كثر كانوا يحاولون حماية شوارع أوسلو من مجانين الضفة.

2.

كان ذلك زمن الصدمة. زمن احترقت فيه كل الجسور من خلف المقاومة التي علّقت روحها بالطريد الخفي، الذي تنام الكوفية الحمراء على كتفيه كما لو كانت عروسا أو وطنا أو طفلا يذهب في سبات عميق. والذي تتحفّز عند حروف اسمه المعطّشة كل التساؤلات عن جدوى مناطحة العالم، ومناطحة عهد السلام، و تحدي عضلات الزعران التي تقبض على كلاشينكوف خرج عن الإجماع الوطني، وشقّ حدود الدم إلى معسكرات العدو.

3.

انهار السقف، وسقط عمود الخيمة.

هذه إرادات دول، تقف في خدمتها أجهزة استخبارات، ويصطفّ لتمجيدها إعلام موجّه، فعلام المقاومة؟.

ها قد مال رأس الحربة،  أمام عيون الأشهاد. اهتزّت الراية قبل أن تتهاوى وسط غبار المعركة. وحيدة، طريدة، مختبئة في غزّة. أمام العيون التي علّقت ما تبقّى من قلوبها بخيوط الراية، في زمن السلام العادل والشامل. 

كانت الراية تذكيرا للجميع بأن الطريق طويلة، ومنهكة، وشاقّة، وغير منطقية، وعبثية، ومحفوفة بالأنظمة والبراز والأنياب والترسانة الحربية النووية لإسرائيل. وكانت مرفوعة رغم كلّ شيء، وقد علّق الناس ما تبقى من قلوبهم بخيوطها.

ها قد مالت الراية، في اللحظة القدريّة، لحظة الاستشهاد،  في أتون المعارك الفردية التي تريد إعادة التوازن للعالم والأحلام والأساطير وفلسطين.

حقير يعمل في هندسة الإنتاج، أتبع الخبر الأولي الذي أذاعه راديو إسرائيل باللغة العربية عن عملية الاغتيال باستخدام الهاتف النقّال، بأغنية زياد رحباني "تلفن عياش، تلفن وكإنو ما تلفن". ومن خلف الأغنية تكاد تسمع الصهللة.

سقط العالم. وتعرّت الأساطير مما عليها من معان.

في زمن أوسلو، ارتفعت أكف مخضّبة بالدم في سماء بلا سقف في غزة. وكأنها تودّع، بحزن جليل، بصراخ يصل عمق الخليقة، الطلقة الأخيرة التي، وإن لم تذهب سدى، لم تدمِ العدو بما يكفي لإنهاكه.

 ها قد انتصر الشاباك!.

"يا اخوتي الذين يعبرونَ في الميدانِ مطرقينْ (نحو إيرز)

منحدرين في نهاية المساء

في شارع الاسكندر الأكبر:

لا تخجلوا ..و لترفعوا عيونكم إليّ

لأنّكم معلقون جانبي .. على مشانق القيصر

فلترفعوا عيونكم إليّ"

قلوب تعضّ على الشظايا الخفية في الضفة.

ولا عين تبكي الطريد في العلن، أمام هيبة الدوريات المشتركة، وأمام نذالة عملاء الأمن.

4.

تشظّت الصخرة التي اتكأ عليها القلب وسط كل هذا العدم، في مقارعة كل ما يتنكر على هيئة منطق وموازين قوى، بالقول أن الدم وحده يشق الطريق نحو كل ما تحتويه الأغاني القديمة من أحلام.

لقد مات الطريد. مات من قال لا للردّة، ولمؤتمر مدريد وما تلاه من أباطيل، فلم يمت، وظلّ روحا أبدية الألم.

"لا تحلموا بعالمٍ سعيدْ

فخلف كلّ قيصرٍ يموتُ : قيصرٌ جديدْ"

5.

وعود بالثأر، كانت تشبه حبة بنادول في مواجهة موت أكيد آت. جميعنا خبرنا وعود الثأر هذه، اللازمة الدائمة لدفن الشهداء. حتى ترسخت قناعة بأن كلمات الثأر تدفن الميّتين قبل أن يهال على وجوههم التراب.

كفّن الناس أحلامهم من دون أن يغسلوها، صلّوا على قلوبهم وعلى العي.اش صلاة الغائب. ثم كادوا يمضون إلى حياتهم في ظل أوسلو. الحياة المرسومة لهم عن غد سعيد على حواجز إسرائيل، في ساعات الفجر الشاحبة، بانتظار ربّ العمل  الذي يرتدي الكيباه.

"خلفَ كلّ ثائر يموتُ:

أحزان بلا جدوى ..

و دمعة سدى !"

شالوم

ابتسمت واشنطن، وابتسمت تل أبيب، ابتسمت المفوّضية الدولية، ومجلس الأمن، وجامعة الدول العربية، ومقرّ الوفد الأردني الفلسطيني المفاوض، وابتسمت سنغافورة، وقد جاملها الناس بابتسامة تخفي القهر.

جرائد الصباح حاولت هي الأخرى أن تجامل وأن تلتزم بالموضوعية: "عملية تفجير". "قتيل".  والناس الذين كانوا يشترون جريدة القدس لأن صفحة الوفيات  هي الصفحة الوحيدة الصادقة فيها، لم يعودوا يصدّقون حتى صفحة الموتى.

"المرحوم؟"

تشظى كلّ شيء..

"ودمعة سدى"

6.

صباح ذلك اليوم، حين أطلق حسن سلامة رسالته الأولى، حوالي السابعة. كنت أشرب الشاي في باحة المنزل تحت شجرة العنّاب. الزمن انتهى منذ زمن. اتساق في السلم، واتساق في العبرية، واتساق في الشالوم. وهكذا، من دون سابق إنذار، هكذا في مسار التاريخ الذي لا يصحّ سواه، تحت جسد أمريكا الثقيل الرابض على أنفاسنا، دوى صوت هائل وعميق حوّل القدس إلى ما يشبه الطبل.

دويّ هائل، شديد العمق، بدا وكأنه انفجار ذاهب إلى بطن الأرض.

أخبار إسرائيل: صور من مكان "الحادث"..

فدائيّ مجهول الوجه مرّ من هنا، وكذلك العيّ.اش. دقّات متواصلة، هادرة، عميقة، على باب الجنّة.

انبثقت أغانينا من مكان الحادث

سطعت شمسنا من مكان الحادث

انهال مطرنا على مكان الحادث

تحلقت قلوبنا حول مكان الحادث

انفجرت أسئلتنا كلّها، في الحادث، وصارت إجابة شافية، في مكان الحادث، وبدا وكأن العالم كلّه قد توقّف عن الدوران، ليعيد اتزانه في الحادث، ومكان الحادث، وصاحب الحادث.

يا بغايا

العالم كلّه هو الحادث، والحادث وحده هو الثابت الوحيد:

هنا، على باب الجنّة، على باب فلسطين، على باب الحلم، على باب الثأر، على باب الوعد، على باب الابتسامة، على باب الله، على باب عهد حسن، على طرف غليله الصادي، على عطشه للردّ، على المقدّمة الدولية لرقم فلسطين العابر في منظومة القطب الواحد، على باب إيجد،  سقط أوسلو، وسافرت شظايا لحم وجمجمة من منزل أسامة حمّاد في غزة  نحو القدس والجنة ومخيم المية ومية، ورافات والمقابر الجماعية للاجئين والقلوب والأرواح والوعود والثأر في خطّ مرسوم، هو قدر الله البليغ.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق