21.9.22

عن الممتلكات العامّة



1.
تحت المطر، وقف عامل من شركة "بيزك"، لهجته تدلّ على أنّه من قرية جبل المكبّر، وهو يجرّب، للمرّة الأولى، الهاتف العمومي الأوّل في رأس العامود، قريبا من مركز الشرطة، بين محلقة سنّقرط و محل "أبو علّيص". شكّل ذلك الهاتف نقلة نوعية في الحي. صرنا نربط العملات المعدنية المثقوبة المخصصة لوضعها في الهاتف العمومي، في أربطة أحذيتنا. كان ذلك أول اصطدام بمفهوم "connecting people " رغم أن أغلبية المنازل لم تكن فيها هواتف. لكن وضع عملتين في رباط الحذاء يجعلك تفترض أنّك لن تضيع في هذه الكرة الأرضية أبدا.

اشتعلت الغيرة في الحارات. حيث تحوّل كشك الهاتف إلى مكان تجمّع، تقام فيه دورات تعليم التدخين، والشتم، والحديث عن التجارب الجنسية المتوهّمة. لقد انتقل مركز رأس العامود كلّه، من دكانة أبي خليل إلى قبالة محل أبي علّيص. ولربما، لو كانت هنالك أراض للبيع هناك، لارتفع سعر قطعة الأرض. نظرا للخدمات المتوفرة في الشارع.

2.
أذكر تلك الحصّة جيدا. كنت في الصفّ السابع، لم يكن قد مرّ على دخول الانتفاضة إلى القدس بضعة شهور. وكان الأولاد يجرّبون أن يستنسخوا ما يرونه على الشاشات، وما يستشعرونه في الدم، بالعمل المرتبك في الشوارع.

كانت تلك حصّة "تاريخ" تعلّمنا عن حملات نابليون، وحجر شامبليون، وريتشارد قلب الأسد، وتفكك الدولة العثمانية، وكيف ننظر إلى أنفسنا بعيون زرقاء. ذلك التاريخ الذي علّمونا إيّاه، آنذاك، كان محاولة لجعلنا نفهم أنفسنا، من حيث كوننا آخرا للغرب.
وقف الأستاذ وهو يتحدث عن سفه من قاموا بمظاهرة الأمس.

3.
وقف الأستاذ وهو يتحدث عن أهمية العلم (كان جميع من يرتبكون أمام الحدث الانتفاضي، يعودون للتركيز على أهمية العلم في مواجهة إسرائيل، بدلا من قذف الحجارة.. هذا، بالطبع، على اعتبار ان كتاب التاريخ الذي كانوا يدحشونه في رؤوسنا، هو العلم كلّه، هو الطراوة والنقاوة، وهو آية الآيات، ومرتقى الأنفاس)

"قولوا لي"، قال الأستاذ، وأردف"من قاموا بتخريب الهاتف العمومي، كيف أسهموا، بالضبط، في تحرير فلسطين؟"

4.
أولاد مجهولون في الشوارع، يخربون الممتلكات العامة. يسدّون الطرق بالإطارات المشتعلة ثم يهربون. أو يكسرون مصابيح الشوارع. أفعال صبيانية تحدّت كتاب التاريخ، ووقفة المعلّم آنذاك.

رويدا رويدا، صار هؤلاء الأولاد يكبرون. يشعلون الإطار، ثم يتمترسون خلفه، ويقذفون دوريات حرس الحدود بالحجارة. ها قد اشتعلت الانتفاضة.
كبر هؤلاء الأولاد في الحيّز المكسو
ر من المصابيح وكابينة الهاتف المحطمة، ومحطّة باص إيجد الذي توقف عن دخول الحارة. كبروا في الظرف الذي أعادوا تشكيله ليذكرهم أنّهم يعيشون تحت الاحتلال، بعد إزالة ضرورية للماكياج :محطة باص، تليفون عمومي، إضاءة شارع. الذي قد يوهمهم بأنّهم مواطنون.

5.
كيف يمكنك أن تنتفض؟
عليك أوّلا أن تتخيل أنّك خارج المستفيدين من وجود النظام

كيف يمكنك فعل ذلك؟
عليك أوّلا أن تستعيد الحيّز العام، أن تؤمّمه بإضرام النار فيه. أن تقذف بأعطيات النظام، إلى منتصف باب فتحة درابزين بلكون حفّة شفّة دائرة ثقب كس إم طيز النظام

6.
"قولوا لي: كيف ستحررون فلسطين وأنتم تخرّبون أملاك الناس؟"

لم نكن نملك إجابات في ذلك الوقت، لكنني كنت أملك، في مغارة قريبة السمّاعة السوداء للهاتف المحطّم، وأظنّ أنها موجودة على سدّة المغارة حتى ذلك اليوم.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق