29.8.22

حواصل






انقراض الضفّة الغربية






صيف الأرض المحتلّة، 2022. في واحدة من قرى شمال الضفّة. يعيش الناس حياة "طبيعية". أعني: طبيعية قدر الإمكان في الظرف الاستثنائي القائم منذ بدايات القرن.

في الظرف الاستثنائي ينبت النبات أيضا، ويكبر الناس، وينسون أحيانا، يتزاوجون، يبنون منازلهم تحت ظل أوامر الهدم وظل الاحتلال. وهكذا، ألفينا إلى أنفسنا ذاهبين إلى حفلة عرس في عمق الضفة الغربية. (تبدو كلمة "عمق" هنا مجرد نطق عن الهوى، فهذا القطاع من الأرض لا عمق جغرافي فيه. لكنّها ضحالة الذهن الذي لم يتدرّب، بعد، على معرفة اتجاهات الأرض، والذي اعتاد على التعرف على قرى وطنه من نشرات الأخبار).

لقد مررنا بمستوطنات لا يسمع العالم عنها سوى في تقارير جمعيات حقوق الإنسان. وقرى، لم يرفع اسمها سوى المنفلتين من السياق الرسمي المتكئ على مخاطبة العالم بلغة الاستجداء. هكذا مررنا مثلا بالزاوية، قرية عمر أبو ليلى، الاسم النضر للفتى الذي جابه الحديد بالأدرينالين ثم اشتعل في الليل نجمة. مررنا ببؤر ارتبطت بأسماء لا تخبو، هكذا مررنا بـ"حفات جلعاد"، حيث ألقى أحمد النصر جرّار خطابه أمام العالم الحر عن الحرية والعدالة والمساواة والسلام العادل والشامل (والنهائي أيضا)، باقتضاب، ثم مضى بعيدا عن عيون أبناء التنسيق الأمني، قبل أن يرتفع على الأكتاف، وفي القلوب، وينتشر في البلد الممزقة اسما حركيّا لكل ما هو ضدّ.




في العرس، يغنّي الرفاق "طلّت الراية الحمرا"... أدرينالين يتصاعد من الجميع (ورائحة عرق أيضا). منذ بدأ الاحتلال على هذه الأرض، والناس تحوّل اجتماعاتها إلى مناسبات للتأكيد على الهوية. وما دمنا نتحدث عن الهوية، تنطلق من مكبّر الصوت، وسط الراقصين بعد دقائق، أغنية شارة البداية من مسلسل "أبطال الديجيتال":

أدرينالين يفور في عروق الجميع. على وقع أغنية المسلسل الرسوميّ. يقترب الرفيق ماجد منّي في عزّ الأغنية ويلقي، وهو يضحك، في أذني خبرا: هنالك حدث أمني في المنطقة. لقد تم إطلاق النار على نقطة عسكرية في موقع قريب من العرس.




قالت الأغنية، في تلك اللحظة.

"نحن في وجه المخاطر

نحتفظ بهدوء أعصابنا، نقاوم".




::




نحتفظ بهدوء أعصابنا، ثم نلملم أشياءنا، ونصعد إلى السيارة: أوامر مرتبكة من موظفين بائسين في قاعة الأفراح، كلّ منهم منتفخ كأنّه رامبو، إذ أقنعه صاحب القاعة أنّه "موظف أمن". مغرية لعبة تعيين عرفاء الصف في فلسطين. إنّ المرء هنا يعيش حياته كلّها ساعيا ليصبح مسؤولا عن أي شيء، حتى ولو كان مسؤولا عن إصدار التوجيهات لفرقة دبكة: "سافروا إلى اليمين، لا مستوطنين هائجين هناك"... "إلى اليسار، لا حواجز عسكرية هناك".. ونحمد الله أننا لسنا من حزب الشعب أو المبادرة الوطنية، وإلّا لبقينا في المنتصف، تيّار ثالث كما يقولون.

اخترنا الذهاب جنوبا، نحو رام الله، من هنا تبدأ الرحلة على عمود فقري للظلام نفسه: شارع نابلس رام الله.

على الجوانب مستوطنات، وبؤر استيطانية، وقرى، ونقاط عسكرية تسرد، بالترتيب مشهدا مرعبا لتقلّص فلسطين التي ظلّت عالقة في الذهن، لسبب ما، بوصفها وحدة جغرافية. عن هذه الوحدة الجغرافية المتخيلة يقول من يرتدون ربطات العنق في رام الله أنهم يدافعون. إنّهم، على حدّ تعبيرهم، لن يسمحوا للمستوطنين بالتوغّل (ويحمون المستوطنين)، ولن يسمحوا للاحتلال بضم مناطق "ج" (ويحمون جنود الاحتلال). الغريب في الأمر أن مناطق "ج" هذه غير موجودة إلا على الورق. الضفة عمليا مقسّمة إلى معازل ديموغرافية يحتشد فيها البشر، ومناطق مفتوحة يلعب بها الاحتلال كما يشاء. لا قيمة لأوراق الطابو هنا (قبل أسبوع، تجرأت مجموعة من المتطرفين الإنجيليين الأميركان، واحتلّوا أراضٍ تتبع قرية بورين، لكي "يقوموا بتشجيرها" في مشروع لتشجير "أرض إسرائيل".. بكل وقاحة. يأتي أجانب لا يعرفون شيئا عن الأرض، فيتيح لهم جنود الاحتلال سرقة الأرض. في الوقت الذي يصرّح فيه وزير شؤون الجدار بأنّه لن يسمح..).

أصقل سيفك يا عبّاس

لا قيمة للقانون الدولي، ولا قيمة للصورة المتخيّلة في أذهاننا عن الضفة.




في مقعد السيارة، أغوص في ذاكرتي وأسحب منها الضفة الغربية التي أعرفها: لقد كانت الضفة الغربية، قبل سنوات، كتلة غير متشظّية من الجغرافيا، تتناثر فيها القرى والعشائر والفصائل والنباتات الموسمية التي تتقاسم النفوذ على التلال الصخرية، فتحيل هذا كلّه إلى إقليم حقيقي من البشر والجغرافيا والمكانة السياسية، اسمه "الضفة الغربية". لكن هذه الضفة قد انتهت. لم يتبقّ من الضفّة سوى قرى تضاء بالكهرباء في جوف الوحش الذي اسمه احتلال. مآذن مضاءة (بنيون أخضر غالبا) تتوسط منازل مبنية بأسمنت آيل للزوال دائما، بأية ذريعة. شوارع مشقوقة كيفما اتفق (والصحيح أن هنالك طبقة أكثر تعقيدا من عرفاء مصفّ سيارات قاعة الورود للأفراح، تتقاتل فيما بينها على رئاسة بلديات هذه القرى، وأحيانا تعدّ نجاحها في الدخول إلى المجلس المحلي انتصارا لأيديلوجيا ما).

ترنّ في الذهن أغنية "أبطال الديجيتال" التي رقصوا عليها في العرس:

"في فخ غريب وقعنا

في عالم الأرقام ضعنا

كيف الخروج ؟ كيف الخروج ؟

من أين الطريق
؟"

طيب، هذا سؤال يجرب لينين وسيّد قطب ونايف حواتمة، حسب ترتيب صعودهم على منصّة التاريخ، التصدي له، من دون نجاحات حقيقية. ولو تمكّنت غواية اليأس منك فستؤمن بأنّك لن يمكنك أن تسمي المسار الذي تحفره قدماك في المتاهة طريقا، إلا بعد الوصول. إنّ أية طريق، قبل أن تصل هدفها النهائي تظل مجرّد محاولات. لكن الأمر ليس على هذا النحو: ففي هذه الطريق: عمر وأحمد أيضا، والهدف "واضح ومحدد ودقيق"، وليس علينا، بالتالي، سوى أن نؤمن بالطريق، لكي تغدو طريقا.




وتماما كما لو أن فلسطين في الحيّز المادّي ليست سوى محاولة، و"المستوطنة" هي الواقع الوحيد، نحيل إلى صدمة الواقع:

يحكي مريد البرغوثي، في "رأيت رام الله"، عن لقاءه الأوّل بالمستوطنة. لحظة اصطدام الخطابة الديبلوماسية الفلسطينية المتمثلة في مطلب "تفكيك المستوطنات" الذي رفعه أنصار مؤتمر مدريد (ولاحقا أوسلو) بالواقع الذي من أسمنت وحديد مسلّح:




ذا سمعت من خطيبٍ على منبر، كلمة "تفكيك المستوطنات"، فاضحك واضحك كما تشتهي. إنها ليست قلاعا من الليجو أو الميكانو التي يلهو بها الأطفال. إنها إسرائيل ذاتها".




كانت افتتاحية جريدة "الطليعة" المقدسية، لسان حال حزب الشعب الفلسطيني، هي أول من أطلق غواية الاصطلاح ليلتقطه المفاوض الفلسطيني، لقد كانت كذبة لتذويب مرارة الواقع. ذات الصحيفة، بالمناسبة، اخترعت مصطلح "كنس الاحتلال"، هذا مصطلح غريب وخطير آخر، يحمل طبقات من الاستعارة: الاحتلال مجرد فتات، يمكن لربّات المنازل التخلّص منه.. كنسه. محض فتات لا يترك أثرا، وإزالته ممكنة بسهولة. بضعة حركات تطوّح بها ربة المنزل، بمكنستها الملوّنة، فتنتهي القصة.




لكن القصّة هي قصّة لسانيات، فالمطلوب هو اقتلاع الاحتلال. لا كنسه. لماذا؟ لأنّ المستوطنة هي تتمّة حكاية اللجوء الفلسطيني، هي، في آن معا: نقيض المخيم، وسببه، ونتيجته. على الأقل حتّى قبل أوسلو كانت المستوطنة هي تتمة لحكاية المخيم. أما اليوم، فهي، بوضوح، تتمّة حكاية حيونة الإنسان الفلسطيني. إنهاء وجوده القومي وإقناعه بأن أفضل ما يمكنه الحصول عليه في هذه الحياة، قبول الشالوم، وسفك المتبقي من عمره على ورش الأسمنت ومعامل المناطق الصناعية التابعة للمستوطنات. وبما أنّ قصّتنا على هذه الأرض هي قصّة اقتلاع، وبما أن طبيعة الاستيطان على هذه الأرض هو، وضوحا، استيطان اقتلاعيّ، فالحلّ كامن في الضدّ، أي: في اقتلاع الكيان كلّه، من جذوره كلّه، عن أرضنا كلّها.





لماذا؟ علينا أن نعود إلى الجغرافيا هنا، إذ لا وجود لفلسطين حقّا هنا. فكل ما تبقّى من فلسطيننا (إن استثنينا غزّة، لأسباب واضحة وموضوعية) هو وجود بيولوجي لتجمعات بشرية، تعيش على حفاف "مناطق إطلاق النار"، وتحت تلال المستوطنين، وأمام فوهات بنادق الجيش، وعدسات المصوّرين، وفوق أراض معرّضة دائما للمصادرة، تتزاوج، تبني منازلها في الحيّز الآخذ في الضيق لمناطق التجمّعات السكنية التي كانت فيما مضى تنطبق عليها توصيفات "قرى"، ولم يتبقّ من قرويّتها اليوم سوى اللهجة وشجر الزيتون الناجي من المذبحة، فأمّا القرويّون فهم عمّال طوبار، إن أصدر المنسّق التصاريح، وهم عاطلون عن العمل، في قرى يستحيل الوصول إلى أراضيها الزراعية، إن لم يسمح المنسّق. هنالك، بالمحصلة، وجود بائس وآخذ في التلاشي للفكرة المغدورة التي اسمها "فلسطين" هنا في الضفة الغربية.

في السابق: كانت الضفّة لا تعني، حصرا، القرى والمدن والمخيمات التي فيها، بل احتمالات تحوّل هذه الضفة إلى وطن (حتى بمعايير الحلول التصفوية). أما اليوم، فلا توجد ضفة. لا توجد مناطق "سي". هنالك ظلام دامس يطبق في الليل على كل شيء. حواصل ضئيلة ومضاءة من أسمنت ينفخ أذان العشاء في شوارعها الروح، ثم تخبو. وفوق ذلك كلّه، حول ذلك كلّه: احتلال.




وهو، لإحاطة سلطة رام الله، احتلال واحد. المستوطنون ليسوا (بعكس الظنّ) مجرد رعاع منفلتين. والمستوطنات هي "إسرائيل ذاتها" بتعبير مريد البرغوثي الذي يستطرد: "إنها إسرائيل الفكرة والأيديلوجيا والجغرافيا، والحيلة، والذريعة". وقد جاء آخر الشواهد على هذا التواصل العضوي بين "المستوطنة" وتل أبيب (جاءت "المستوطنة" بين هلالين هنا، لأنّها، بتعريف المفاوض الفلسطيني، ومؤسسات حقوق الإنسان، تتعلق بتسريحة الشعر، فهي المكان الذي تتدلى فيه، خلف أذن الصهيوني، خصلات الشعر المقصوع، وهذا غير شرعي. ولذا فبإمكاننا تقديم شكوى للصهيوني الذي يقص شعره قصّة عسكرية، في مركز الحكم العسكري في بيت إيل، أو نبكي على الأمر أمام الصهيوني الذي يترك العنان لشعره، لأنّه يحب اليوغا ولا يأكل لحم الحيوان، في حي فلورنتين في تل أبيب). إذ أصدرت وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية قرارها بسحب جميع الخرائط التي تحتوي على "الخط الأخضر"، بذريعة أن الخط الأخضر وجهة نظر.




وسط ذلك كلّه: يأتي من يرفع شعار يرى أن المخرج من الأزمة يتمثّل في عقد انتخابات المجلس التشريعي في "فلسطين". وك أيّ فلسطين هذه؟  الضفّة يلزمها، كحد أقصى، عريف صفّ









هناك 5 تعليقات:

  1. الامانة انك بتفش الغل حبيب الشعب ابو غوش

    ردحذف
  2. أول مرة أشوف واحد إفتراضي حقيقي.. وأظن أنها آخر مرة 👌🏽

    ردحذف
  3.  "الاحتلال الطويل خلقَ منا أجيالاً عليها أن تحبّ الحبيب المجهول، النائي، العسير، المحاط بالحراسة، وبالأسوار، وبالرؤوس النووية، وبالرعب الأملس".

    ردحذف