21.4.17

حيفا فلسطينية من جذورها ونحو مستقبلها

تنشر هذه التدوينة  في كل من نشرة "إتجاه" الصادرة عن  حراك "نبض" الشبابي، ومدونة  "حيفا الحرّة"  التي يحررها الرفيق يوآب حيفاوي.
يرغب الرفيق يوآب في إطلاق صفة "مشتركة" على هذه التدوينة رغم أن دوري فيها لم يتجاوز الإضافات والحشوات هنا وهناك.   إلا ما دعاني لقبول هذه الدعوة  بحماس هو توصيف "المشتركة" ، وهو توصيف إيجابي في هذه الأيام، منذ انطلاق مسيرة القائمة المشتركة المظفّرة التي تقضي في هذه اللحظات بالذات على اليمين الفاشي الإسرائيلي وتطارد فلوله، وتمنع استخدام الأسلحة النووية في الشرق الأوسط، وتدافع بكل شراسة عن حقوق النساء. الأسماء غواية، كما تعلمون. ولذا فقد استهواني الاسم، وها نحن ننشرها في المدونتين معا في ذكرى سقوط حيفا التي تحل غدا.على أن تنشر في مجلة "اتجاه" (وهي التي كُتبت من أجلها هذه المقالة) في مطلع أيار.



حيفا فلسطينية من جذورها ونحو مستقبلها



بقلم: مهند ابو غوش ويوآب حيفاوي
هناك مذهبان مختلفان لرواية قصة إنشاء مدينة حيفا الحديثة عام 1761. يشير المذهب الأول إلى أن "حيفا العتيقة"، قد كانت موجودة في موقع حي "محطة الكرمل" اليوم. هذا المذهب يشرح كيف قام ظاهر العمر بإصدار أمر بـ"نقل" المدينة إلى موقعها الجديد بين ساحة الحناطير (ساحة الحمراء) غربًا ومقبرة الاستقلال شرقًا. وهناك من يشدد على مسألة إنشاء حيفا كمدينة جديدة تم التخطيط لها ضمن مشروع بناء دولة حديثة في القرن الثامن عشر. ولا نخشى إعلان انتمائنا إلى المذهب الأخير في قراءتنا لتاريخ حيفا.
كلما أسهبنا في القراءة حول تجربة ظاهر العمر وإنشاء دولته شبه المستقلة (1730 - 1775)، التي امتدت في عزّها من بيروت وحتى غزة ومن شواطئ عكا وحيفا وحتى المناطق الجبلية ما بعد نهر الأردن، ألفينا إلى كونها قصة تاريخية عجيبة قادرة على إلهامنا حتى اليوم، وعلى مساعدتنا في صياغة تصوّر للمستقبل.  لقد كانت دولة ظاهر العمر، قبل كل شيء، محاولة للاستقلال، كما كانت محاولة للاستفادة من أموال الضرائب لبناء الاقتصاد المحلي بدلا من تحويلها إلى الآستانة عن طريق المتصرفين والجباة. بهذا، كانت تجربة ظاهرة العمر تجربة سياسية وتنموية فلسطينية سبقت تجربة استقلال الولايات المتحدة الأمريكية نفسها سنة 1776. لم تكن هذه التجربة نتيجة للتعصب المحلي في مواجهة الحكم العثماني بل كانت جزءا من بداية المرحلة الحديثة في تاريخ الشعوب وانطلاقة الثورة الصناعية في أوروبا، وما استتبعها من تكثيف الطلب على شراء القطن من فلسطين. ولذلك كان إنشاء مدينة حيفا كميناء للتصدير ومركز للتجارة عابرة القارات جزءاً مهماً من هذا المشروع.
لم تقتصر ايجابيات مشروع ظاهر العمر على الاستقلال المحلي والإعمار وتطوير الاقتصاد، فالتجربة نفسها تقدم لنا نموذجًا مميَّزًا عن علاقة الدولة بالناس حيث اعتمد الحكم على تنظيم الجماهير وبناء مليشيات محلية وتوجيه الاقتصاد لكي تتمكن الدولة من توفير حاجات الفلاحين. كانت الدولة، أيام ظاهر العمر، تقوم بتوزيع التقاوي (البذور) على الفلّاحين ليتمكنوا من زراعة أرضهم واستصلاح المزيد من الأراضي، كما قدمت إليهم القروض، ونظّمت عمليات بيع المحاصيل. إن هنالك مثالا واحدا "بسيطا" على "الحكم الراشد" يمكن أن يثير العجب حتى اليوم: عيّن ظاهر العمر ابنه حاكما لمدينة شفاعمرو. لكن أهالي المدينة قد رفضوا تعيينه، وهذا ما دفع ظاهر العمر إلى الوقوف إلى جانب4 أهالي شفاعمرو. وحين قابل ابنه رفض أهالي المدينة حكمه بقوة السلاح، قدّم العمر دعمه إلى مليشيات الفلاحين التي قاومت حكم ابنه.


عبر نشوئها في هذا السياق التاريخي، تختلف مدينة حيفا عن معظم مدن فلسطين. فالعديد من هذه المدن يعدّ من ضمن أقدم المدن في تاريخ البشرية وجذورها تمتد آلاف السنين، ومقابلها، هنالك العديد من المدن الجديدة التي تم تأسست في إطار المشروع الاستعماري الصهيوني ولا يتجاوز، عمرا، مائة سنة. ولكن حيفا يصل عمرها اليوم إلى  256 سنة وهي تشكل مثالا ملموسا على قيام مشروع نهضوي فلسطيني سبق المشروع الصهيوني بكثير. ولذلك نشهد إهمالا بل تجاهلا من قبل بلدية حيفا والمؤسسات الصهيونية لتاريخ هذه المدينة.  فحينما حلّت الذكرى الـ 250 سنة على تأسيس المدينة (عام 2011)، مثلا،  جرى الاحتفال بهذه الذكرى من قبل لجنة شعبية مكونة من ممثلي الجمهور العربي الفلسطيني وليس من قبل المؤسسات الحاكمة.


وبالرغم من سقوط دولة ظاهر العمر وقتله على يد البعثة العسكرية العثمانية بقيادة أحمد باشا الجزار، إلا أن مدينة حيفا واصلت تطورها وازدهارها باعتبارها ميناء ومركزا تجاريا كما خطط لها مؤسسها. وقد توسّعت المدينة خارج الأسوار في القرن التاسع عشر،  وتعزز دورها مع إنشاء خط سكة الحديد من حيفا الى درعا (سنة 1905) الذي تم ربطه بالخط الحجازي. كما تعزز دور المدينة أكثر أيام الاحتلال (الانتداب) البريطاني مع بناء الميناء الجديد والمطار وربط حيفا بسكة الحديد الواصلة من القاهرة إلى بيروت. وقد استقطبت المدينة المئات من العمال والموظفين الفلسطينيين  وعائلاتهم وهذا ما خلق شبكة علاقات "مدينية" حديثة، كوزموبوليتية بمقاييس تلك الأيام، تتجاوز الروابط القروية والمدينية التقليدية في سائر مدن فلسطين. هنالك مثلا عائلات حيفاوية تمتد جذورها إلى قرية سلواد، انتقل أفرادها للعمل في "كوبّانية" حيفا وظلّوا في المدينة بعد النكبة.  كما أن قسما من السجناء في معتقلها من قيادات ومناضلي الحركة الوطنية الفلسطينية إبان الانتداب من مناطق مختلفة في فلسطين التاريخية، قد استقروا في المدينة بعد النكبة. بناء عليه، لم يكن من الغريب أن ينظم المجتمع نفسه وفق قوانين جديدة، وفي أطر مستحدثة منها نقابة عمال فلسطين، والأحزاب، والجمعيات الأدبية، والكشافة، بشكل حثيث، ويفوق سائر المدن الأخرى، بسبب انعدام العصبوية العشائرية والريفية والطائفية.


يصدر هذا المقال على أعتاب ذكرى سقوط حيفا (21-22\4\1948) وتهجير سكانها العرب وتدمير الجرافات الصهيونية لقلب المدينة النابض – المدينة التي بناها ظاهر العمر بين الأسوار. ونشهد في هذه الأيام، 69 سنة بعد النكبة، حملة صهيونية مكثفة لهدم بيوت حي وادي الصليب الذي ظلّ مهجورًا كمتحف حجري يشير إلى المأساة الفلسطينية ويشهد على جرائم التطهير العرقي ويرمز لانتظار المدينة عودة أهلها. وتعمل الصهيونية منذ 69 عام على محو هوية المدينة الفلسطينية العربية. ولكن الحاصل في هذه المواجهة هو معادلة فريدة، فكلّما قامت السلطات بهدم حجر، نمت هوية حيفا من جديد من خلال المزيد من البشر:.
إسرائيليا، لم تعد مدينة حيفا المنكوبة إلى الازدهار تحت الحكم الصهيوني، فقد تحولت إلى حيّز ملحق بتل أبيب، وعُرفت كـ"المدينة النائمة". إن حيفا لا يمكن لها أن تأخذ دورها في ظل عزلها عن فضائها الطبيعي المتمثل في بيروت ودمشق وعمان وغزّة والقاهرة ونابلس. أما في الزمن الصهيوني، فقد انتقلت  المدينة من المركز إلى الهامش. وقد تحولت إلى فندق ينام فيه المستوطنون الذين صارت تل أبيب مدينتهم ومركز حياتهم.
رغم ما سبق، فقد ظلّت حيفا مدينة مركزية للعرب الفلسطينيين في المناطق المحتلة منذ 1948. وعلى مرّ السنين نشأت وتجمعت فيها مؤسسات المجتمع المدني وهي تشهد تطوّر الحياة الثقافية وتتركز فيها مختلف النشاطات الاجتماعية والوطنية، و فيها تنشأ علاقة فريدة  بين الفلسطينيين فيها، قائمة على التعاقد الفردي، لا العائلي والطائفي، وتنشط فيها الحراكات والأحزاب السياسية، والمؤسسات الثقافية والاجتماعية. وهكذا، بدأت حيفا تتنفس، من جديد، باعتبارها مدينة فلسطينية تتطلع إلى المستقبل.
إن حيفا تشكّل، في الوعي الفلسطيني المصاب بلعنة النكبة، ترميزا عالي الكثافة للجنّة المفقودة. ففيها تم وأد واحدة من أهم تجارب التحديث والاستقلال الفلسطيني، وقصف  برعمها النامي بالقنابل الصهيونية. وبذا فإن أهلها وناشطيها يحملون على كواهلهم أيضا ثقلا إضافيا في نشاطهم السياسي والاجتماعي، هو عبء الدفاع عن حيفا المتشكلة في الوعي الفلسطيني المحروم منها، كموضع لا تختفي منه فلسطين، ولا تسقط بالتقادم، ولا تختنق وراء الحدود المصطنعة. ومن شواهد ذلك أن قسما كبيرا من النشاطات الوطنية فيها قد صار واحد من اشتراطاته غير المعلنة التنسيق لإقامتها بالتوازي مع مواقع الوجود الفلسطيني الأخرى، على الأرض المحتلة منذ 1967 وفي الشتات.
في الـ13 من نيسان، من خلال نشاطات تأبين الشهيد باسل الأعرج، أطلق ناشطون فلسطينيون إسمه على المفترق الذي تقام فيه العديد من تظاهراتهم. لقد أثبتت التجربة أن هذا الفعل قادر على الصمود والثبات، حيث يروي الناشطون قصة بقعة أخرى في المدينة، هي الساحة التي أطلق عليها المضربون عن الطعام في حيفا، إسنادا لإضراب الحركة الأسيرة في العام 2011، إسم "ساحة الأسير". وعلى مدار خمسة أعوام تسلل هذا الإسم حتى إلى لسانيات المؤسسة الحاكمة. فهنالك أكثر من قصة اشتكت فيها البلدية من نشاط يتم في ساحة الأسير، أو يسأل فيها ضابط المخابرات ناشطا يتم التحقيق معه عما كان يفعله "في ساحة الأسير".
هذا الاختراق، الانتصار في المعارك الصغيرة والرمزية، هو الآخر أمر مهم، لأن حيفا المدينة لا يمكن لها بالمطلق أن تنفصل في الوعي الفلسطيني عن المجاز، الرمز، حيث يشتبك مشروع الاستقلال الفلسطيني بمحاولات طمس المدينة، ومجازر قضائها، وقصص مقاومتها، تحت شعارات التعايش الموهومة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق